فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ألهاكم}: شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات.
عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكمًا بهم، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم.
قيل: {حتى زرتم}: أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم.
وسمع بعض الأعراب {حتى زرتم} فقال: بعث القوم للقيامة، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم.
وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي.
وقيل: هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثرًا بمن سلف وإشادة بذكره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم قال: «فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر» قال ابن عطية: كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفًا، وبيان النواويس عليه.
وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرأفة الكبرى، والقرأفة الصغرى، وباب النصر وغير ذلك، وما يضيع فيها من الأموال، والتعجب من ذلك، ولرأى ما لم يخطر ببال؟
وأما التباهي بالزيارة، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور.
زرت قبر سيدي فلان بكذا، وقبر فلان بكذا، والشيخ فلانًا بكذا، والشيخ فلانًا بكذا؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفارًا، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم.
وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيرًا من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلبًا للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته.
وقرأ الجمهور: ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة: بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضًا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية: أألهاكم بهمزتين، ومعنى الاستفهام: التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور: على أن التكرير توكيد.
قال الزمخشري: والتكرير تأكيد للردع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: {كلا سوف تعلمون} في القبور {ثم كلا سوف تعلمون} في البعث: غاير بينهما بحسب التعلق، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان.
وقال الضحاك: الزجر الأول ووعيده للكافرين، والثاني للمؤمنين.
{كلا لو تعلمون}: أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه، {علم اليقين}: أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو {ألهاكم التكاثر}.
وقيل: اليقين هنا الموت.
وقال قتادة: البعث، لأنه إذا جاء زال الشك.
ثم قال: {لترون الجحيم}: والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود، كما قال تعالى: {وإن منكم إلا واردها} ولا تكون رؤية عند الدخول، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}.
{ثم لترونها عين اليقين}: تأكيد للجملة التي قبلها، وزاد التوكيد بقوله: {عين اليقين} نفيًا لتوهم المجاز في الرؤية الأولى.
وعن ابن عباس: هو خطاب للمشركين، فالرؤية رؤية دخول.
وقرأ ابن عامر والكسائي: لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة: بالفتح، وعليّ وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية: بفتحها في {لترون}، وضمها في {لترونها}، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة: بضمهما.
وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها.
لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى.
{ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}: الظاهر العموم في النعيم، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع.
وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد: هو الأمن والصحة.
وعن ابن عباس: البدن والحواس فيم استعملها.
وعن ابن جبير: كل ما يتلذذ به. وفي الحديث: «بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}
التفسير:
لما ذكر القارعة وأهوالها قال: {ألهاكم} أي شغلكم التكاثر وهو المغالبة بالكثرة أو تكلف الافتخار بها مالًا وجاهًا عن التدبر في أمر المعاد فنسيتم القبر حتى زرتموه. ويروى أن بني عبد منافٍ وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددًا فكثرهم أي غلبهم بالكثرة بنو عبد منافق فقالت بنوسهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات أي عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنوسهم فنزلت الآية. وهذه الرواية شديدة الطباق لظاهر الآية لقوله: {زرتم} بصيغة الماضي وفيه تعجب من حالهم أنهم زاروا القبور في معرض المفاخرة والإستغراق في حب ما لا طائل تحته من التباهي بالكثرة والتباري فيها، مع أن زيارة القبور مظنة ترقيق القلب وإزالة القساوة كما قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زياة القبور ثم بدا لي فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» من هنا قال بعضهم: أراد الحرص على المال قد شغلكم عن الدين فلا تلتفتون إليه إلا إذا زرتم المقابر فحينئذ ترق قلوبكم يعني أن حظكم من دينكم ليس إلا هذا القدر ونظيره قوله: {قليلًا ما تشكرون} [الملك: 23] أي لا أقنع منكم بهذا القدر من الشكر.
وقيل: معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك، ويندرج فيه من يمنع الحقوق المالية إلى حين الموت ثم يقول: أوصيت لفلان بكذا ولفلان بكذا، واستدلوا عليهم بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا ابن آدم تقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» ثم قرأ {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} أي حتى متم. وأورد عليه أن الزائر هو الذي يجيء ساعة ثم ينصرف. والميت يبقى في قبره مدة مديدة. وأيضًا إن قوله: {زرتم} صيغة الماضي فكيف يحمل على المستقبل؟ ويمكن أن يجاب عن الأول بأن مدة اللبث في القبر بالنسبة إلى الأبد أقل من لحظة كما قال: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} [الكهف: 19] وعن الثاني بأن المشرف على الموت كأنه على شفير القبر أو هو خبر عمن تقدمهم والخبر عنهم كالخبر عن متأخريهم لأنهم كانوا على طريقتهم.
أما تكرار رؤية الجحيم فقيل: إن الأول رؤيتها من بعيد كما قال: {إذا رأتهم من مكان بعيد} [الفرقان: 12] والثاني رؤيتها من قريب إذا وصلوا إلى شفيرها.
وقيل: الأولى عند الورود، والثاني بعد الدخول، وأورد قوله: {ثم لتسئلن} فيها فإن السؤال قبل الدخول.
وقيل: التثنية للتكرير والمراد تتابع الرؤية وإتصالها فكأنه قيل لهم: إن كنتم اليوم شاكين فيها فسترونها رؤية دائمة متصلة، فيجوز أن يكون قوله: {علم اليقين} متعلقا بالرؤيتين جميعًا، ويجوز أن يكون متعلقا بالثانية لأن علمهم بها وبأحوالها وآلامها يزداد شيئًا فشيئًا حتى يصير الخبر عينًا. ومعنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قد مر في آخر (الواقعة) وفي السؤال عن النعيم وجهان: الأول أنه للكفار لما «روي أن أبا بكر لما نزلت الآية قال: يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب، أتكون من النعيم الذي يسأل عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك للكفار ثم قرأ {وهل نجازي إلا الكفور} [سبأ: 17]» ولأن الخطاب في أول السورة للذين ألهاهم التكاثر عن الماد فناسب أن يكون الخطاب في آخر السورة أيضًا لهم. ويكون الغرض من السؤال التقريع حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببًا للسعادة هو أعظم أسباب الشقاء لهم. الثاني العموم لوجوه منها خير أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما يسأل عن العبد يوم القيامة النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ألم نروك من الماء البارد» ومنها قول محمود بن لبيد: لمَّا نزلت السورة قالوا: يا رسول الله إنما هو إنما هو الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم يسأل؟ فقال: أما إنه سيكون وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل على من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به».
وعن الباقر رضي الله عنه أن النعيم العافية.
وعنه أن الله أكرم من أن يطعم عبدًا ويسقيه ثم يسأله عنه، وإنَّما النعيم الذي عنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعت قوله تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا} [آل عمران: 164] وقيل: هو الزائد على الكفاية.
وقيل: خمس نعم: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق، وعن ابن مسعود: الأمن والصحة والفراغ، وعن ابن عباس: ملاذ المأكول والمشروب.
وقيل: الانتفاع بالحواس السليمة.
وعن الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن.
وقال ابن عمر: الماء البارد. والظاهر العموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصة وكفر، وسؤال المؤمن للتشريف فإنه أطاع وشكر. والظاهر أن هذا السؤال في الموقف وهو متقدم على مشاهدة جهنم. ومعنى {ثم} الترتيب في الإخبار أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة عن النعيم.
وقيل: هو في النار توبيخًا لهم كقوله: {كلما ألقي فيها فوج سألتهم خزنتها ألم يأتكم نذير} [الملك: 8] وقوله: {ما سلككم} [المدثر: 42] ونحوه. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة التكاثر:
مكية.
وهي ثمان آيات.
وثمانية وعشرون كلمة.
ومائة وعشرون حرفًا.
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام {الرحيم} الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.
ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى: {ألهاكم التكاثر} أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه.
{حتى زرتم المقابر} أي: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم، وزيارة القبر عبارة عن الموت.
قال الأخطل:
لن يخلص العام خليل عشرًا ** ذاق الضماد أو يزور القبرا

تنبيه:
حتى غاية لقوله تعالى: {ألهاكم} وهو عطف عليه، والمعنى: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زوارًا ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات: قد زار قبره.
فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريبًا والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال: إنه زار القبر، وأيضًا حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل.
أجيب: عن الأول: بأن سكان القبور لابد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن.
الثاني: لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل)
وقال أبو مسلم: إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيرًا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددًا فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددًا، والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكمًا بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة: في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالًا، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم، والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر، والمقابر: جمع مقبرة بفتح الباء وضمها، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر.
قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل: بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى: {ثم أماته فأقبره} (عبس)
وهذا ممنوع فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة».
وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن زوّارات القبور». فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها.
ويسلم إذا دخل المقابر فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضًا، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حيًا، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم وأنه لابد صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم وماله كمالهم.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت».
وعن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان، ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله».
وقرأ ألهاكم حمزة والكسائي بالإمالة محضة.
وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {كلا} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى: {سوف تعلمون} إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم وقوله تعالى: {ثم كلا سوف تعلمون} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ كما يقال للمنصوع أقول لك لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم.
وعن علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه {كلا سوف تعلمون} في الدنيا.
{ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين وثم على بابها من المهلة.
وعن ابن عباس {كلا سوف تعلمون}ما ينزل بكم من العذاب في القبور {ثم كلا سوف تعلمون}في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين.
وروى زر بن حبيش عن علي كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة فأشار على أنّ قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون}في القبور.
وقيل: {كلا سوف تعلمون}إذا نزل بكم الموت وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم {ثم كلا سوف تعلمون} في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة، وقال الضحاك: {كلا سوف تعلمون}يعني الكفار{ثم كلا سوف تعلمون} أيها المؤمنون فالأوّل وعيد والثاني وعد.
ولما كان هذا أمرا صادقًا أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّدًا الأمر بين تأكيد الردع تاليًا بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقًا كما يقوله أئمة القراءة.
{كلا} أي: ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء فإنكم {لو تعلمون} أي: أيها الكافرون {علم اليقين} أي: لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون.
{لترون الجحيم} جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفيًا ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن وهو مستقبل لابد من وقوعه وحذف جواب لو كثير.
قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين لالهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيمًا.
وقوله تعالى: {ثم لترونها} تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار.
{عين اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.
قال الرازي: واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطرة الخاصة.
قال صلى الله عليه وسلم: «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف: على ما قام بالحق.
وقال قتادة: اليقين هنا الموت، وعنه أيضًا. البعث، أي: لو تعلمون علم الموت، أو البعث فعبر عنه الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل.
وقيل: لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت..
{لترونّ الجحيم} بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك.
وقرأ لترونَ ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
{ثم لتسئلنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين {يومئذ} أي: يوم رؤيتها {عن النعيم} وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف)
وقوله تعالى: {كلوا من الطيبات} (المؤمنون)
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ)» لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم.
وقيل: السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد؟».
وقيل: الزائد على ما لابد منه، وقيل: غير ذلك.
قال الرازي: والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل: إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل: هو في موقف الحساب، وقيل: بعد دخول النار يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» حديث موضوع إلا آخره، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر». اهـ.